في مئويته سولجنتسين .. رائد الأدب الوثائقي في روسيا
نشرت بواسطة: admin
في مقالات
مارس 31, 2018
144 زيارة
كتب : د. محمد نصر الدين الجبالي .
تحل هذا العام، الذكري المئوية لميلاد الأديب الروسي الكبير الكسندر سولجنتسين، والحاصل علي جائزة نوبل في الآداب في عام 1970. عُرف سولجنتسين أيضًا بكونه شاعرًا، وكاتبًا اجتماعيًّا، ورجل سياسة، وأَّلف العديد من الكتب، التي تتناول تاريخ روسيا، وطوال الحقبة السوفيتية كانت أعماله ترمز للحرية، والنضال ضد السلطة السوفيتية. وعلي الرغم من ذلك فقد شارك الكاتب في الحرب العالمية الثانية، ونال عددًا من الأوسمة. غير أنه- وبسبب إحدي الرسائل المريبة- تم الاشتباه به وزُجَّ به إلي السجن، وظلَّ صامتًا لفترة طويلة إلي أن قرر الحديث، وسرد ما رآه من أهوال في معتقلات ستالين، وكيف كان يزج بآلاف من البشر إلي هناك ليلقوا حتفهم.
وقد نال سولجنتسين احترامًا واسعًا من النخبة المثقفة في روسيا. وحتي بعد اتهامه بالعداء للشيوعية، وترحيله خارج البلاد، ظل يحظي بسمعة كبيرة. وواصل الكاتب إبداعاته في أوروبا، ونال في تلك الفترة جائزة نوبل في الآداب. وقد اعترف في أحد كتبه، أنه لم يكن يتصور أن تطبع مجموعة مؤلَّفاته الكاملة يومًا ما في روسيا. كان سولجنستين عدوًّا للشيوعية، دائم الانتقاد لها، غير أنه أثناء إقامته في أوروبا، كثيرًا ما انتقد الديمقراطية أيضًا. لم يكن مُعجبًا بسياسة الغرب، وكان يرغب في العودة إلي وطنه متي سمحت له الظروف بذلك. وما إن قام جورباتشوف بتطبيق سياسة البيروسترويكا أو إعادة البناء، حتي تم السماح له بالعودة إلي الوطن، حيث مُنح جائزة الدولة.
وقد صدرت أُولي إبداعات سولجنتسين في عام 1962 بعنوان: “يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفيتش”، وجلبت له شهرة واسعة. ثم سرعان ما صدرت قصصه القصيرة “حادثة علي محطة كوتشيتوفكا” و”زاخار كاليتا” و”حوش ماتريونا”. أما ذروة الاهتمام بإبداعات الكاتب في روسيا، فكانت في الفترة بين عامَي 1988-1994م. طبُعت كتبه في تلك الفترة بالملايين. غير أن الاهتمام به خفت كثيرًا في السنوات التي سبقت وفاته وما بعدها. وقد اعتبر سولجنتسين أن أهم عمل في حياته هوالرواية الملحمية “العجلة الحمراء”.
ويري سولجنتسين أن روايته تلك، استغرقت منه حياة كاملة، قضاها في دراسة فترة بدايات القرن العشرين، حاول فيها ألا يغفل أي واقعة أو تفصيلة تاريخية في تلك الفترة. وقد طُبعت الرواية بالإنجليزية في البداية، وكان ذلك في عام 1972، في حين لم تصدر الطبعة الروسية إلا في عام 1993م.
أما رواية “عنبر السرطان”، فتحكي عن الفترة التي قضاها الكاتب في العلاج من مرض السرطان في أحد مستشفيات طشقند في عام 1954. أما الأبطال الرئيسيون في العمل، فهم مرضي عنبر السرطان، الذين تجمعوا من أطراف البلاد المختلفة، وينتمون إلي طبقات اجتماعية متباينة. ويدور الموضوع الرئيس للرواية عن كفاح الإنسان ضد الموت. ويتناول الكاتب فكرة أن الناس المصابين بمرض يهدد حياتهم لا يفقدون الأمل الأخير في الشفاء، وهم أكثر عزمًا وقدرة من الأصحاء. وقد تم نشر الرواية مباشرة في الغرب، فيما لم تنشر في روسيا إلا في عام 1990.
أما قصته الشهيرة “يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفيتش”، التي جلبت له شهرة عالمية، فقد أطلق عليها في البداية عنوان” ش 854”. ويحكي سولجنتسين في قصته تلك، عن أحداث يوم واحد من حياة معتقل سوفيتي، وهوالجندي إيفان دينيسوفيتش شوخوف. وللمرة الأولي يستطيع القارئ السوفيتي، التعرف علي الوضع داخل معتقلات ستالين، من خلال عمل أدبي موضوعي. وبعد أن قرأت القصة صرحت الأديبة الروسية آنا أخماتوفا: أن كل مواطن سوفيتي يجب ألا يكتفي بقراءة هذه القصة، بل ويحفظها عن ظهر قلب. وقد تم ترجمة رائعة سولجنتسين هذه إلي أربعين لغة، كما تم تحويلها إلي فيلم في أوروبا.
أمَّا “أرخبيل الجولاج” – الرواية – السيرة الذاتية الشهيرة، فقد استغرقت 10 سنوات كاملة لكي ينتهي منها. وقد صدر الجزء الأول منها في عام 1972 في باريس. وتتضمن الرواية مذكرات، وخطابات، وقصص المعتقلين في معسكرات ستالين، وشهادات أقاربه، فضلاً عن الخبرة والتجربة الشخصية للكاتب. ولم تنشر الرواية كاملة في روسيا إلا في عام 1990. إلا أن هناك خلافًا بين النقاد حول هذه الرواية، كما هوالحال تجاه الكاتب نفسه في السنوات الأخيرة. وفي عام 2008 تم تحويل الرواية إلي فيلم يحمل عنوان: “ التاريخ السري لأرخبيل الجولاج”.
وقد اتسمت إبداعات الكاتب دومًا بطرح القضايا الملحمية الشاملة، واستعراض الأحداث التاريخية بأعين شخصيات رواياته الذين ينتمون إلي طبقات اجتماعية مختلفة، وإلي جبهات سياسية متباينة.
كما اتسم أسلوبه باستخدام الإسقاطات إلي الإنجيل، وكثرة استخدام الأساليب الملحمية في السرد، وكذا استخدام الرمز. ونادرًا ما يعبر الكاتب عن رأيه الشخصي في أعماله، بل يطرح في الغالب صدامًا لوجهات نظر مختلفة بين أبطاله. ومن السمات المميزة لأعماله أيضًا استخدام الوثائق بشكل مكثَّف، كما أن أغلب أبطاله واقعيون أوأنهم يجسِّدون أشخاصًا حقيقيين أومن أصدقاء الكاتب، ومعارفه. فالحياة بالنسبة إليه رمزية، ومتعددة الأوجه أكثر منها خيال أدبي أوفني. ونجد مثلاً في روايته “العجله الحمراء” استخدام الكاتب للوثائق بشكل مكثَّف، فضلاً عن شيوع السِّمات المميزة لأدب الحداثة، وهوالأمر الذي اعترف به الكاتب فيما بعد. أما فنيًّا، فقد تأثر كثيرًا بالفكر الفلسفي للأديب الكبير ليف تولستوي.
كما اهتم سولجنتسين كثيرًا باللغة الروسية وثرائها، وعرف عنه استخدام الألفاظ النادرة التي سبق أن استخدمها الأدباء الروس القُدامي، وكذا تلك التي تستخدم في الحياة اليومية، وعمل علي تنحية الألفاظ الأجنبية، والدخيلة علي اللغة الروسية، وطرح ألفاظًا روسية أصيلة بدلاً منها.
أما عن حياة سولجنتسين، فقد وُلد في 11 ديسمبر 1918م بمدينة كيسلوفودسك. وفي عام 1936 التحق بمعهد الفيزياء والرياضيات بمدينة روستوف، وأنهي دراسته فيه في عام 1941. كما التحق أثناء دراسته بجامعة موسكو للفلسفة والأدب والتاريخ (دراسة عن بُعد).
وعلي الرغم من بنيانه الجسماني الضعيف، فقد حرص سولجنتسين علي الالتحاق بالجيش، والمشاركة في الحرب دفاعًا عن وطنه. وفي عام 1942، وبعد قضاء فترة التدريب في مدرسة المشاة أُرسل إلي الجبهة، حيث شارك في القتال، وحصل علي عدة أوسمة، منها: وسام النجمة الحمراء. ولم يتوقف سولجنتسين طوال هذه الفترة عن الكتابة.
وفي إحدي رسائله إلي صديقه فيتكيفيتش، انتقد سولجنتسين سياسة ستالين و”التفسير المغلوط للنظرية اللينينية”؛ وكان ذلك سببًا في اعتقاله في عام 1945، والحكم عليه بالسجن لمدة ثماني سنوات.
وفي عام 1952، تم اكتشاف إصابته بمرض السرطان، وكانت تلك محنة وتجربة قاسية، وفي تلك الفترة استعاد سولجنتسين، الذي نشأ شيوعيًّا مُلحدًا إيمانَه بالله وبالدين. لم يكن العلاج كافيًا للتغلب علي آلام المرض، والشفاء منه، فبدا له أن الدين والإيمان أقوي من الأيديولوجية؛ نظرًا لأنه يصارع الشر في داخل الإنسان، ويتغلب عليه، في حين تنشر الثورات الشرور والآلام. وقال الكاتب قولته الشهيرة : »إن الحدَّ الفاصل بين الخير والشر، لا يمر ما بين دول ولا طبقات اجتماعية، ولا بين أحزاب، بل عبر قلب كل واحد منَّا».
وفي عام 1953 تم نفيه إلي جمهورية كازاخستان السوفيتية استكمالاً للعقوبة، وعمل سولجنتسين مدرسًا، ثم انتقل للعلاج من مرض السرطان في مدينة طشقند عاصمة جمهورية أوزبكستان السوفيتية حينها. وفي عام 1956 نال عفوًا، وعاد مرة أخري إلي روسيا.
وقد تناول الكاتب سنوات السجن الطويلة في مؤلَّفاته »لوبي الثورة» و »في الدائرة الأولي» و »يوم من حياة إيفان دينيسوفيتش» و»الدبابات تعرف الحقيقة» وغيرها.
وبعد عودته إلي روسيا اختار مدينة ريزان للإقامة، حيث عمل في مدرسة محلية، وواصل الكتابة. وفي عام 1965 استولت السلطات السوفيتية علي أرشيف الكاتب، وتم حظر نشر مؤلَّفاته. في عام 1967 بعث الكاتب برسالة مفتوحة إلي اتحاد الكتَّاب السوفييت، كان من نتيجتها أن اعتبر سولجنتسين معاديًا للدولة، ومصدر خطر علي استقرارها.
وفي عام 1968 أنهي سولجنتسين العمل من كتابة روايته »أرخبيل جولاج»، وتم تهريب كتابين آخرين وهما »عنبر السرطان» و »في الدائرة الأولي» إلي الخارج، حيث صدرا في أوروبا.
وفي عام 1969م تم طرد سولجنتسين من اتحاد الكتَّاب السوفييت. وبعد صدور روايته »أرخبيل الجولاج» في ألمانيا في عام 1974، تم القبض عليه، ونفيه إلي ألمانيا.
وقام الكاتب خلال الفترة بين عامي 1975-1994 بزيارة ألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا. وفي عام 1989 صدرت »أرخبيل الجولاج» للمرة الأولي في روسيا.
وفي عام 1994 عاد سولجنتسين إلي وطنه روسيا، وواصل الكتابة. وصدرت مجموعة مؤلَّفاته الكاملة في 30 جزءًا في عام 2006. وتُوفي الكاتب في الثالث من أغسطس عام 2008.
عاش سولجنتسين حياة أدبية مديدة. وعلي مدي عقود طويلة قضاها في الكتابة والتأليف، كانت مواقفه دومًا تتسم بالحسم، وعدم المهادنة تجاه مختلف القضايا في تاريخ روسيا وحاضرها؛ ولذا فقد كان الكاتب يفقد عددًا من مناصريه كل عام، ويكتسب آخرين أيضًا.
وكانت له رؤيته الخاصة تجاه حالة الأدب الروسي المعاصر، حيث قال: »فترات التحول الجذري المتسارع لم تكن قط فترات محبذة للأدب. فإنتاج الأعمال الكبيرة يتم دائمًا وفي كل مكان في أوقات الاستقرار، سواء كان استقرارًا جيدًا أم رديئًا. وليس الأدب الروسي الحديث استثناء من ذلك. والقارئ المثقف اليوم أكثر اهتمامًا بالكتابات غير الخيالية. ومع ذلك، أعتقد أن العدالة والضمير لن يغيبا عن الأدب الروسي كمؤسسة، بل سيبقيان ليكونا في خدمة تنوير أرواحنا وتعميق فهمنا».
ورغم بقائه في الغرب لعقود طويلة، فإنه رفض الإيمان بعقيدة الغرب، كما فعل الكثيرون غيره من أدباء روسيا المنشقين، حتي إنه لم يتردد في مهاجمته بشدة في كثير من المواقف. ففي خطابه أمام طلاب وأساتذة جامعة هارفارد الأمريكية عام 1978 وصف سولجنتسين الولايات المتحدة بالدولة التي تعاني خواء روحيًّا، وتعيش واقعًا ماديًّا فجًّا. كما صرَّح أن الأمريكيين يعانون من افتقاد الشجاعة، وبرر ذلك بقلَّة عدد الأشخاص المستعدين للموت في سبيل أمريكا، كما أدان تخاذل أمريكا حكومة وشعبًا في فيتنام.
وعلي الرغم من وفاته قبل عشر سنوات، فإن إبداعاته ما زالت تثري عقول الكثيرين، ولا يزال الجدل حوله دائرًا بين من يعتبره مناضلاً ووطنًّيا، وبين من يعتبرونه خائنًا للوطن.
ومن أقواله المأثورة : »لا أستطيع القول إن مؤلَّفاتي جميعها كان الهدف منها أن أكشف للغرب ما يدور لدينا في الشرق. لقد هدفت منها إلي استعادة الحقيقة حول ما يدور في بلادي، وكنت أضع نصب عيني بني وطني فقط. كان ذلك بمثابة الحل بالنسبة إليَّ. ينبغي أن يحدث تغيير. ذاك التغيير الذي يسمح لي بنشر كتابي »أرخبيل الجولاج» كاملاً، وعلي أوسع نطاق».
الكسندر سولجنتسين د. محمد نصر الدين الجبالي 2018-03-31