كتب د. محمد نصر الدين الجبالي .
تعود أصول أدب المنفي في روسيا إلي بدايات القرن التاسع عشر. حيث كتب الأديب الشهير نيقولاي جوجول عن المصير الذي ينتظر بلاده وهو بعد في المهجر. كما نفي أدباء كبار مثل الكسندر جيرتسين ونيقولاي أوغاريوف ، وكان للأديب إيفان تورجينيف الفضل في تعريف أوروبا بالأدب الروسي. غير أن موجات الهجرة التي تلت ثورة أكتوبر مثلت ظاهرة خاصة سواء من حيث الحجم أو السمات والأهمية التي لعبتها في تطور الأدب الروسي خاصة ، والأوروبي بصفة عامة.
ويعتبر أدب المنفي أحد أهم مراحل تطور الأدب الروسي في القرن العشرين وهو أحد فروع الأدب الروسي الذي ظهر بشكل بارز بعد استيلاء البلاشفة علي السلطة في عام 1917م. وقد صدرت إبداعات كتاب المنفي الروس خارج حدود الاتحاد السوفيتي.
واتفق الباحثون علي ثلاث موجات لهجرة الأدباء الروس خلال الحقبة السوفيتية. بدأت الموجة الأولي في عام 1918م واستمرت حتي قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية واحتلال الألمان لباريس. وكانت هجرة جماعية لعدد كبير من الكتاب والشعراء الروس. أما الموجة الثانية فبدأت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وتحديدا في عام 1940م واستمرت إلي عام 1950م. ولم تشهد الزخم نفسه الذي شهدته الموجه الأولي. والثالثة بعد انتهاء فترة ذوبان الجليد في عصر خروشوف وأدت إلي هروب عدد من كبار الأدباء الروس أمثال الكسندر سولجنتسين ويوسف برودسكي وسيرجي داوفلاتوف. وتعد الموجه الأولي هي الأكثر أهمية من حيث قيمة ما تركته من إبداعات وتأثير علي الأدب الروسي.
وقد تم استحداث مصطلح “أدب المنفي” بعد ثورة أكتوبر 1917م عندما بدأت عمليات هجرة جماعية للسكان الروس إلي الخارج وبلغ عدد اللاجئين الروس أكثر من مليونين وكانت الوجهة الرئيسة إلي برلين وباريس. وشكل هؤلاء مجتمعات روسية كاملة حاولت الحفاظ علي الهوية الروسية والعادات والتقاليد والفنون. كما قاموا بإصدار المجلات والصحف باللغة الروسية وتم افتتاح عدد من المدارس والجامعات بل وصل الأمر إلي تشييد كنائس روسية في المهجر. وعلي الرغم من حفاظ الموجة الأولي من المهاجرين علي التقاليد الروسية ما قبل الثورة ، عاني المهاجرون من صعوبات حياتية كثيرة ، فبعد أن فقدوا أسرهم ووطنهم ومكانتهم الاجتماعية أصبح لزاما عليهم أن يناضلوا من أجل البقاء ، وكذلك من أجل التأقلم مع المجتمعات الجديدة. بدت آمالهم بقرب العودة إلي الديار صعبة المنال ، وخاصة في عام 1920م حيث أصبح واضحا أن روسيا لن تعود كما كانت كما بدا طريق العودة إليها مسدودا. كانت المعاناة مزدوجة : الشوق والحنين إلي الوطن وضرورة العمل البدني الصعب للبقاء علي قيد الحياة وتوفير النفقات.
كانت الموجه الأولي صفحة مأساوية في تاريخ الثقافة الروسية. وتعتبر ظاهرة فريدة سواء من حيث العدد الضخم للأدباء المنفيين أو من حيث إسهاماتهم الكبيرة في الثقافة العالمية لاحقا. بدأت الهجرة الجماعية للأدباء في عام 1919م و ضمت أكثر من 150 كاتب وشاعر ضمن مليوني شخص فروا من روسيا في العام نفسه. كما اتخذت الحكومة السوفيتية قرارا بنفي أكثر من 160 أديب في عام 1922 نظرا لكتاباتهم الدينية و الفلسفية و ركبوا سفينة أطلق عليها “سفينة الفلاسفة” و ضمت من الأدباء و الفلاسفة الروس:نيقولاي بيردياييف و نيقولاي لوسكي و سيمون فرانك و سيرجي بولجاكوف. كما ضمت الكتاب: ايفان بونين و ألكسندر كوبرين و بوريس زايتسف وألكسي تولستوي. وقد حافظت الموجه الأولي من الأدباء المهاجرين علي سمات وخواص المجتمع الروسي وعبروا عنها في كتاباتهم. وأضحي الأدب الروسي في المهجر يصور الأحداث الثورية في روسيا والحرب الأهلية ويوثق انهيار التقاليد التي سادت قبل الثورة والتراث الروسي قبل الاشتراكية.
شهد عام 1927م ذروة نهضة أدب المهجر حيث أصبحت الكتب تنشر في الخارج باللغة الروسية. ولوحظ أن الأدباء الروس حرصوا علي المحافظة علي الحرية السياسية والثراء في الإبداع في سبيل نضالهم ضد الواقع المرير لحياة المنفي. ومن المدن التي أصبحت قبله للأدباء الروس “برلين” عاصمة للأدب الروسي في المهجر حيث كان يقطنها معظم كتاب الدراما والمسرح. كما كانت “براغ” نقطة تجمع الفنانين والشعراء. أما “باريس” فتستحق لقب عاصمة الثقافة الروسية في المهجر. كما اتجه بعض الأدباء إلي الشرق و تحديدا “شنغهاي. وبرز في هذه الموجة جيلان من الأدباء: الجيل القديم و الذي تجسدت في كتاباته سمات الحياة الروسية بجلاء ،وكانوا معروفين للقارئ الروسي ولهم أسلوبهم المميز وانتشرت كتاباتهم ، ليس فقط في روسيا بل وخارجها. وكان معظمهم من الرمزيين ( زيناديا جيبوس وقسطنطين بالمونت ودميتري ميرجكوفسكي) والمستقبليين (إيجور سيفيريانين) وكتاب الذروة ( جيورجي ايفانوف وجيورجي أداموفيتش) والواقعية ( الكسندر كوبرين وألكسي تولستوي ). و تجمعت حول هؤلاء ، مجموعات من الأدباء ونظمت صالونات وجمعيات أدبية حضرها الجيل الأصغر و الذي كان يطلق عليه حينها “الجيل غير الملحوظ”. و هؤلاء الذين لم يكونوا قد خطوا خطوات كبيرة بعد في بلدهم روسيا قبل اضطرارهم إلي مغادرتها و لم تتشكل شخصياتهم الأدبية بعد. حيث تجمع بعضهم حول إيفان بونين و آخرون حول فلاديسلاف خوداسيفيتش. وقد مالوا إلي اتجاه ما يعرف بالكلاسيكية الجديدة واستخدام الأشكال والقوالب الصارمة في السرد و نذكر منهم تيرابيانو وسمولينسكي وبيربيروف.
ويجمع النقاد علي تقسيم الموجة الأولي إلي فترتين : الأولي تمتد بين عامي 1920-1925م وهي الفترة التي تشكل فيها أدب المهجر الروسي واتسمت الكتابات بتمحورها حول الأمل في العودة مرة أخري إلي الوطن. كما تركزت الموضوعات حول الهجوم علي النظام السوفيتي البلشفي الجديد ، والشوق إلي روسيا الإمبراطورية ، وصور الكتاب الحرب الأهلية من وجهه نظر معادية للثورة الجديدة.
وتأتي الفترة الثانية والتي تمتد بين عامي 1925 و 1939م و شهدت تطورا لصناعة النشر وتأسيس الجمعيات الأدبية الروسية في المهجر. ويلاحظ هنا فقدان الأدباء الأمل في عودتهم مرة أخري إلي الوطن. وتشيع في تلك الفترة كتابات المذكرات والسير الذاتية والدعوات إلي الحفاظ علي عبق الجنة المفقودة وذكريات الطفولة والعادات الشعبية. كما انتشرت الرواية التاريخية التي تعاملت مع التاريخ بوصفه حلقة في سلسلة من الأحداث التي تعتمد في الأساس علي إرادة الإنسان. كما تناول أدباء تلك الفترة موضوع الثورة والحرب الأهلية وصوروا الحرب بشكل أكثر موضوعية مقارنة بسابقيهم وظهرت أولي المؤلفات التي تصور الحياة داخل معسكرات العمل والاعتقال (إيفان سولونيفيتش “روسيا تسبح في معسكرات اعتقال” و م. مارجولين “رحلة إلي بلد المعتقلات” ويوري بيسونوف “26 سجنا والهروب من سولوفكي” وفي عام 1933م منحت جائزة نوبل إلي أحد كتاب المنفي وهو إيفان بونين.
أما الموجة الثانية في أدب المهجر الروسي فقد ولدتها أحداث الحرب العالمية الثانية عندما هاجر عدد كبير من كتاب جمهوريات البلطيق والتي ضمها الاتحاد السوفيتي عام 1939م ، وكذلك الأسري الذين خشوا العودة إلي الوطن حتي لا يتعرضوا إلي الاعتقال ، والمنفيون للعمل في ألمانيا من الشباب السوفيتي وكل من تعاون مع الفاشية. واختار هؤلاء في البداية ألمانيا مكانا لإقامتهم ثم انتقلوا إلي أمريكا وبريطانيا. وبدأ معظم كتاب وشعراء الموجة الثانية نشاطهم الأدبي في المهجر ونذكر منهم الشعراء: يلاجين وكلينوفسكي وتشينوف وفيسينكو وغيرهم. وقد بدءوا بتناول القضايا الاجتماعية ثم انتقلوا إلي الكتابات الغنائية والفلسفية. ومن الكتاب نذكر يوراسوف و ريجيفسكي و فيليبوف و شيرياييف. وقد تناول هؤلاء الحياة في الاتحاد السوفيتي قبيل الحرب وصوروا عمليات التنكيل والخوف الذي ساد بين الناس ، والحرب والطريق الشاق الذي تكبده الكاتب في رحلة هروبه إلي الخارج. وكان ما يجمع كتاب وشعراء هذه الموجة تجاوز التوجه الأيديولوجي الذي قيد إبداعات سابقيهم. وتبقي كتابات أدباء هذه الموجة الأقل شهرة حتي الآن.
أما الموجة الثالثة لأدب المنفي فترجع إلي نهايات الستينيات من القرن الماضي. ينتمي معظم أدباء هذه الموجة إلي فترة ذوبان الجليد في عهد خروشوف ، وهي الفترة التي شهدت انتقادا لنظرية عبادة الفرد في عصر ستالين والدعوة إلي العودة إلي “القواعد اللينينية في الحياة”. وسمح للكتاب بتناول موضوع المعتقلات ومعسكرات العمل المحظور سابقا، وأصبح من المسموح الخروج عن الأطر الفنية لاتجاه الواقعية الاشتراكية الذي ساد لعقود ، وأصبح الكتاب يبادرون بتجربة اتجاهات جديدة. إلا أنه وفي منتصف الستينيات وضعت قيود مرة أخري علي الإبداع وتم تشديد الرقابة علي الأدب وتعرضت الكتابات الناقدة للهجوم ، وبدأت عمليات التضييق علي الأدباء ومنهم ألكسندر سولجنتسين و فيكتور نيكراسوف الذي تم اعتقاله ، ومن ثم نفيه إلي أحد معسكرات العمل. كما تم القبض علي كل من سينيافسكي وتهديد أكسيونوف ودافلاتوف و فوينوفيتش. وفي ظل هذه الظروف اضطر هؤلاء إلي السفر للخارج. وانضم إليهم الكثيرون أمثال أليشكوفسكي و ليمونوف و جاليتش و جوبرمان و أمالريك.
ومن أهم سمات الموجة الثالثة التمازج الرائع بين الاتجاهات الأسلوبية للأدب السوفيتي مع منجزات الكتاب الغربيين وإيلاء الاهتمام الأكبر بالاتجاهات الطليعية. ويعتبر الكسندر سولجنتسين أشهر أدباء هذه الموجة ومن كبار الكتاب الواقعيين في روسيا السوفيتية. وقد كتب خلال فترة هجرته ملحمة كبيرة تحمل عنوان “العجلة الحمراء” يتتبع فيها تاريخ روسيا. وحصل علي جائزة نوبل في الآداب عن روايته الشهيرة “أرخبيل الجولاج”. كما ينتمي الي الاتجاه الواقعي أيضا كل من جيورجي فلاديموف وفلاديمير مكسيموف وسيرجي دافلاتوف. كما اتسمت إبداعات الكاتب فاسيلي اكسيونوف بالسخرية اللاذعة من الأوضاع و تعد ثلاثيته “ملحمة موسكوفية” من أشهر الكتابات في هذا الجيل وتتناول فيها الحياة في روسيا في الثلاثينيات والأربعينيات. وتتجلي سمات أدب الحداثة وما بعد الحداثة في كتابات ساشا سوكولوف ” مدرسة الحمقي” و” حوار بين ذئب وكلب” كما دارت كتابات يوري ماملييف في فلك الأدب السيريالي والواقعية الميتافيزيقية. واستطاع الكاتب أن ينقل حالة الخوف وانعدام قيمة الحياة في قصصه القصيرة “حكايات روسية” وروايته “الزمن الضائع”. ومن بين أدباء الموجة الثالثة أيضا يوسف برودسكي الحائز علي جائزة نوبل في الأدب في عام 1987م. وقد ترك كتاب الموجه الثالثة من أدب المنفي الروسي العديد من الأعمال في مختلف الأجناس الأدبية و الأساليب الفنية.
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي عاد الكثير من أدباء المهجر إلي روسيا وواصلوا نشاطهم الإبداعي. ففي عام 1990م تم إصدار قانون “الصحافة وسائل الإعلام” والذي نحي جانبا الأسباب التي أدت إلي نشأة ظاهرة أدب المهجر. وشهدت العقود الثلاثة الأخيرة صدور كتابات داخل روسيا سبق حظرها في الحقبة السوفيتية لكتاب أمثال: أكسيونوف وليمونوف وداولاتوف ونيكراسوف وسولجنتسين وبرودسكي وغيرهم.
للإطلاع على مصدر المقال : https://adab.akhbarelyom.com/newdetails.aspx?g=8&id=309757