كتب د. محمد نصر الدين الجبالي
شهد القرن الثامن عشر في روسيا سيطرة تيار الأدب الكلاسيكي أو الاتباعي وهو اتجاه محافظ يلتزم فيه الأديب بالتقاليد والقواعد التي أرساها سابقوه. وقد ظهر هذا الاتجاه في روسيا بعد التحولات التي قام بها القيصر بطرس الأكبر (1672-1725م) حيث قام الشاعر والعالم الكبير ميخائيل لومونوسوف بإدخال كثير من التعديلات والإصلاحات في نظم الشعر الروسي حتي يقرب بين القواعد الفرنسية الكلاسيكية واللغة الروسية. وتطور الاتجاه الكلاسيكي في روسيا تحت تأثير فكرة التنوير التي سادت تلك الفترة، حيث انتشرت أفكار المساواة والعدالة وكانت في بؤره اهتمام الكتاب الكلاسيكيين. ومن أهم سماته المميزة التزام الأديب بالقواعد الصارمة التي تميز جنسا أدبيا ما. كما كان هؤلاء الكتاب يختارون المضامين المرتبطة بالتاريخ والثقافة والفلسفة والفنون في اليونان وروما القديمة.
وعادة ما كان يتم تصوير كل ما يرتبط باليونان القديمة وروما القديمة بكونه مثالا يحتذي ونموذجا للجمال ينبغي تقليده. ولذا كان من المسموح للأديب سواء الشاعر أو الناثر أن يختار من بين موضوعاته المسائل والقضايا الأبدية في الحياة أو التي لا تتعرض للتغيير وأهمها القضايا الفلسفية. وقد أكد الاتجاه الكلاسيكي في الأدب الروسي علي هرمية الأجناس الأدبية حيث تم تصنيفها إلي نوعين: “الأجناس العليا” كالملحمة والقصيدة الغنائية والتراجيديا و”الأجناس الدنيا أو السفلي” كالكوميديا والسخرية والحكاية الرمزية. كما لم يكن يسمح بالمزج بين الأجناس الأدبية في عمل واحد وكان كل منها يلتزم بالقواعد الصارمة التي أرساها السابقون.
وقد قام الشاعر لومونوسوف بوضع نظريته في اللغة الروسية الفصحي مستفيدا من خبراته ومعرفته بعلم البلاغة اليوناني واللاتيني.
ومع الدعوات التي أطلقها روسو للكتاب الكلاسيكيين للاقتراب من الطبيعة وتصويرها ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر آراء تدعو إلي الكتابة عن المشاعر الرقيقة والأحاسيس المرهفة وأطلق علي هذا التيار الجديد السنتيمنتالية. وقد أطلق علي هذا الاتجاه الجديد اتجاه ما قبل الرومانتيكية. وازدهر هذا التيار بداية في الأدب الألماني وتحديدا في أعمال جوته و شيلير.
وقد شهد عصر بطرس الأول أو الأكبر (1725 – 1762م) تغلغل الثقافة الأوربية إلي روسيا حتي مست كل مجالات الثقافة وخاصة بين نخب المجتمع الروسي. وتعلم الروس الكثير في الغرب الا أنهم لم يقبلوا كل ما هو أوروبي، بل انتقوا ما هو ضروري بالنسبة إليهم من روائع الثقافة الأوربية.
وشهدت اللغة الروسية أيضا في تلك الفترة بعض التغيرات والظواهر المهمة. حيث لم تستطع روسيا القديمة صياغة لغة وطنية موحدة ولغة قادرة علي التعبير عن كافة أنماط الاستخدامات اللغوية ومتطلبات الحديث. وكانت فترة حكم بطرس الأكبر بمثابة انقلاب وتحول مهم في اللغة كونها شهدت توحيد عناصرها التي بدت في السابق متفرقة ومتباينة. وكانت هذه التحولات قد بدأت في القرون السابقة ولكنها كان تسير ببطء شديد، أما الآن فأصبحت الوتيرة متسارعة.
وقد جعلت حكومة بطرس الأكبر علي رأس أولوياتها الإسراع بإرساء الأفكار التنويرية ونشر الثقافة في المجتمع الروسي. حيث قرر القيصر منذ السنوات الأولي لحكمه إيفاد الطلاب الروس إلي أوروبا. غير أن ذلك وحده لم يكن كافيا لحل مشكله توفير الكوادر المؤهلة. ولذا قام بطرس الأكبر بتأسيس مدارس فنيه غير دينية جديدة في روسيا. وكانت المدارس الفنية هي الأكثر انتشارا بين أنواع المؤسسات التعليمية في روسيا في تلك الفترة. وكان لهذه المدارس دور ليس فقط تعليميا بل وثقافيا تنويريا أيضا. وقامت المدارس بدور كبير في نشر ثقافة التعلم بين الروس. لم يكن التعليم فيها كنسيا لاهوتيا كما كان في السابق عادة ولم يقتصر التدريس فيها علي علوم الخطابة والمنطق والفلسفة بل كان التركيز علي معرفه العالم المحيط والدعاية للمعارف الحقيقية حول الطبيعة والمجتمع وكل ما توصل إليه العلم في تلك الفترة.
وكان للصحافة دور هام في تلك الفترة حيث قامت بالدعاية للثقافة والسياسة التي تبناها بطرس الأكبر. وبلغ عدد الإصدارات والكتب التي صدرت في فترة حكم بطرس الأكبر أكثر من ستمائة كتاب ومطبوعة. ولم يصدر خلال حكمه أي عمل أدبي تقريبا حيث لم تكن هناك موارد مادية كافية لذلك، كما لم يكن لدي القيصر الإصلاحي وقت لذلك. ومن أمثله الكتب المنشورة في تلك الفترة الكتب التعليمية في الهندسة والجغرافيا والرياضيات عموما والشؤون العسكرية. كما كانت هناك ترجمات لكتب في التاريخ وأمهات الكتب في القانون. كما نشر كتاب “حكايات أيسوب” عدة مرات ليس بوصفه عملا أدبيا بل كدليل إرشادي وتهذيبي لمبادئ الأخلاق. كما نشرت كتب في الأدب الاجتماعي لبعض المؤلفين الروس.
أراد بطرس الأكبر أن يستطيع الروس الإلمام بعادات وقواعد السلوك وطريقة الحديث وحسن المظهر. ولذا فقد أمر بإصدار كتب إرشادية خاصة بذلك. وفي عام 1717م صدر للمرة الأولي كتاب عن قواعد السلوك والأدب في الحديث. ويشرح المؤلف في الكتاب كيف يجب التحدث مع الأكبر سنا وكيف يجب أن يسلك الفرد في المجتمع وفي تعامله مع الناس وكيف يجب أن يتصرف الشاب في مقتبل عمره.
ومن بين إنجازات بطرس الأكبر إصدار الصحيفة الأولي في روسيا “الأخبار” في عام 1703م. وهي السنة التي ولدت فيها الصحافة الروسية. ونشط الأدب الاجتماعي وصحافة الرأي في الدعاية للإصلاحات التي يقوم بها بطرس الأكبر والحروب التي خاضها ومناهضة كل الأشكال ونماذج التفكير القديم وأنماط الحياة القديمة وإلي مساعدة الناس علي استيعاب وفهم فكرة ومغزي سياسة القيصر .
وكان الربع الأول من القرن الثامن عشر فترة ازدهار للأدب الاجتماعي وصحافة الرأي. وقد عبرت هذه الصحافة ومقالات الكتاب عن الصراع الدائر حول جدوي الإصلاحات التي يقوم بها القيصر. ونظرا لأن مقدرات الصحافة كانت بيد الحكومة فإنها كانت في أغلبها تؤيد هذه الإصلاحات وتلك السياسة وتدافع عنها وتشرح أهدافها وإيجابياتها. غير أن رد الفعل المعارض من جانب الكنيسة وقتها لم يعدم الوسيلة للتعبير عن نفسه أيضا من خلال المقالات الصحفية. وقد اشتهر حينها رجل دين يدعي ستيفان يافورسكي راعي إحدي الكنائس بكتابه مثل هذا النوع من المقالات. وكان كاتبا بارعا وموهوبا غير أنه عارض السياسة الإصلاحية لبطرس الأكبر.
ويعد فيوفان بروكوبوفيتش من مناصري بطرس الأكبر، وكان أحد أكثر الكتاب الموهوبين في عهده وأشهر الأدباء في بدايات القرن الثامن عشر. ولد عام 1681 وتوفي عام 1736م. وكان رجل دين وراهبا ذكيا تلقي تعليمه في كييف وفي إيطاليا ولذا فقد تخطت قدراته واهتماماته حدود رجل الدين العادي. وأيد هذا الرجل المساعي التي يقوم بها القيصر لإرساء الأفكار التنويرية الأوربية.
وفضلا عن كتاباته الدينية كان أديبا موهوبا وشاعرا قديرا وكانت أشعاره محاكاة لتقاليد الشعر الأوروبي عصر النهضة. وأثناء إقامته في كييف ألف دليلا إرشاديا في تعليم البلاغة وكتابة الشعر. وصدر الكتاب باللغة اللاتينية. كما قام بدراسة المنهج الكلاسيكي في الأدب القديم. وفي عام 1705م كتب الكوميديا التراجيديا الشعرية “فلاديمير” والتي يصور فيها تعميد روسيا القديمة ويصور القيصر بطرس الأكبر بوصفه مصلحا كبيرا ويهجو ساخرا كل المعارضين للإصلاحات ويصفهم بالحمقي البربريين بما فيهم الإدارة الدينية في عهده. كما قام بروكوبوفيتش بكتابه مباحث في العقيدة وإرشادات تربوية جمعها في كتابه “التعاليم الأولي للشباب” بالإضافة إلي مقالات تاريخية وخطب. وقد استخدم الكثير من البديع والعناصر البلاغية في مقالاته وخطبه واشتهر بالسخرية من أعداء الإصلاحات.
كما كرس مجموعته الشعرية الغنائية “أبينيكون” (1709) أيضا للدعوة لبطرس الأكبر وانجازاته وخاصة انتصاراته علي السويدين في موقعة بولتافا.
وبعد وفاة بطرس الأكبر تعرض لصدمة كبيره حيث انهالت عليه الأزمات المادية والتقليل من شأنه وكتب عده قصائد تناول فيها الوضع المأسوي لأفضل رجال روسيا في عصر الرجعية ما بعد بطرس الأكبر.
لقد بعث النشاط التنويري الذي قام به بطرس الأكبر علي إحياء الطاقات الإبداعية لدي الشعب.
ولم تشهد فترة حكم بطرس الأكبر إصدار أعمال أدبية كثيرة، غير أن هناك مجالا استرعي اهتمام القيصر والمحيطين به ألا وهو المسرح. كان المسرح وسيلة ناجحة للدعاية لانجازات بطرس الأكبر وثورته الثقافية الجديدة. لم يكن المسرح يتطلب مستوي تعليميا وثقافيا مرتفعا من الجماهير كما كانت أسعار التذاكر منخفضة وفي متناول الجميع. ازدهر المسرح الروسي بفضل المسرحيات المترجمة من الانجليزية والألمانية.
كما ازدهر الشعر الغنائي في النصف الأول من القرن الثامن عشر وأصبح جنسا أدبيا جماهيريا في النصف الثاني. ويتميز الشعر الغنائي الروسي في تلك الفترة بقربه من ناحية الأسلوب والمضمون من الدراما الشعرية في تلك الفترة وخاصة “المونولوج الآريا” حيث كان أبطال المسرحيات يحكون عن مشاعر الحب الخاصة بهم. كثر استخدام مونولوجات الحب تلك في المؤلفات النثرية في النصف الأول من القرن الثامن عشر.
وربما تمثل القصص أهم الظواهر المميزة للأدب الروسي في عصر بطرس الأكبر. وقد وجدت انتشارا واسعا علي غرار المسرحيات المترجمة. واختلفت تماما عن المؤلفات القصصية في القرون السابقة حيث تضمنت آفاقا جديدة ومجالات أوسع وكشفت عن قدرات وإمكانات اكبر لدي الإنسان الروسي. نلحظ فيها أن الإنسان الروسي لم يعد ذلك الشخص الانطوائي المنغلق علي نفسه في فضاء ضيق وإرث روسي روحي قديم بل أصبح شخصا أوربيا بكل معني الكلمة.
وقد شاع في تلك الفترة ترجمة وحتي إعادة كتابة القصص الأجنبية العلمانية. وانتشرت قصص المغامرات التي تحكي عن مختلف التجارب الغريبة وحتي الخيالية التي يقوم بها أبطال يثيرون الإعجاب هائمون في الحب وشجعان يجوبون البلاد وينتقلون من بلد إلي آخر، وعادة ما تنتهي القصة بزواج البطل من محبوبته.
واستفاد الروس من التجارب الغربية في كتابة روايات المغامرات وأبدعوا قصصا روسية وأعادوا كتابة بعض الأعمال الغربية بنكهة ومذاق روسي وأضافوا إليها مضامين وتفاصيل من البيئة الروسية. والقاسم المشترك في جميع هذه القصص شخصية البطل الجديد الشاب الروسي الذي فتحت إصلاحات القيصر بطرس الأكبر أمامه آفاقا جديدة وعالما بأكمله واندفع هذا البطل الجديد ليكتشف هذا العالم وينهل منه. لم تعد الأمور الروحية تشغل أبطال تلك الفترة ولا نجد بينهم من يتحدث عن الصلاة أو العبادة والطقوس. هكذا نجد جميع أبطال القصص الروسية في عصر بطرس الأكبر متعطشين للحرية في الاستفادة بقدراتهم وإمكاناتهم. هؤلاء يسعون للسفر إلي الغرب حيث فضاء أرحب وحيث لا قيود روحية أو ترتبط بإرث تاريخي قديم. هو البطل النموذج والمثل للإنسان الجديد، شخص ماهر يتقن الغناء والعزف وقرض الشعر. شخص لا ترهبه المخاطر أو المغامرات. بل يري فيها بعد ما عاني من سنوات ركود حياتية طويلة حلما رائعا وبديعا بدور ناصع ونشط ومفعم بالإرادة.
وكانت هناك قصص من نوع آخر تعني ليس بالمغامرات التي يقوم بها الأبطال بل بمشاعرهم ومعاناتهم النفسية العميقة وخاصة مشاعر الحب. وتدعو هذه القصص إلي تعظيم نموذج الشخص النبيل المستنير متكامل الشخصية كما تدعو إلي إعلاء مبادئ الإخلاص واحترام المشاعر الجادة. و هكذا طرحت هذه القصص نموذجا جديدا لشخصية الرجل الغني أو النبيل ولذا فقد نالت شهرة واسعة وكانت جد مهمة في تاريخ الأدب الروسي حيث قدمت أول نماذج للتحليل النفسي وجذبت الاهتمام إلي شخصية الإنسان ونذكر منها علي سبيل المثال قصة “حكاية الاسكندر. النبيل الروسي”
وهكذا انعكست في القصص والشعر الغنائي العاطفي في عصر بطرس الأكبر التطور الثقافي والأخلاقي الذي عاشه المجتمع الروسي والذي كان نتاجا مباشرا لما قام به القيصر والإصلاحي الروسي الكبير بطرس الأول.
ويمكن القول أنه وعلي الرغم من ارتباط الأدب الروسي في حقبة بطرس الأكبر بما سبقه غير أن تلك الفترة قد شهدت تحولا كبيرا في تاريخ الأدب الروسي، حيث ولي وجهه تماما نحو الغرب وطرح مبادئ ومثلا علمانية دنيوية وبشرية. وضع الأدب الروسي في تلك الفترة حجر الأساس لثقافة روسية من نوع جديد ومرحلة جديدة ودشن لتقاليد ساعد في إرسائها العالم الروسي الشهير ميخائيل لومونوسوف وتوجتها إبداعات الشاعر العظيم الكسندر بوشكين.
للإطلاع على مصدر المقال : https://adab.akhbarelyom.com/newdetails.aspx?sec=%D8%B4%D8%B1%D9%82+%D9%88%D8%BA%D8%B1%D8%A8&g=8&id=342927