نشأة الأدب الروسي بين الديني والتاريخي
نشرت بواسطة: admin
في مقالات
أبريل 26, 2018
394 زيارة
نشأة الأدب الروسي بين الديني والتاريخي
كتب د. محمد نصر الدين الجبالي
كانت اللغة الروسية السلافية في بداياتها لغة فنية وكانت تختلف تماما عن اللغة الدارجة حينها، ومع الوقت ازدادت السمات الفنية وتعرضت اللغة الدارجة للكثير من التغيرات. وبقيت اللغة السلافية الكنسية كما هي بل اقتربت أكثر فأكثر من اليونانية. وعملت أجهزة الحكم والإدارة في الأقاليم المختلفة في روسيا علي تطوير أشكال من اللغة أكثر قربا من لغة السكان المحليين ولذا نجد اللغة تختلف من مكان إلي آخر في روسيا. ومع نهاية القرن الخامس عشر أصبحت لغة إمارة موسكو هي اللغة الرسمية للإمبراطورية وكانت هذه اللغة تختلف عن اللغة الفصحي بشكل كبير. فقد كانت اللغة الروسية المتداولة متحررة من الألفاظ الكنسية واليونانية، وكان تركيب الجملة فيها بسيطا جدا والحصيلة اللغوية من الألفاظ ضخمة. واتسمت اللغة الروسية حينها بكونها معبرة وقادرة علي التصوير والوصف غير أنها لم تكن لتصلح بديلا للغة السلافية الكنسية القديمة. ولم تكن تصلح للاستخدام في الأغراض الأدبية. حيث استخدمت اللغة الروسية للمرة الأولي للأغراض الأدبية في الربع الثالث من القرن السابع عشر الميلادي وذلك علي يد المبدع العظيم القديس أفاكوم.
ولم يكن الأدب في تلك الفترة من المهن المتعارف عليها في روسيا القديمة ولم يكن هناك كتاب أو أدباء. وكانت القراءة وجمع الكتب من الأشياء التي تلقي احتراما كبيرا إلا أن الأعمال الأدبية لم تظهر إلا عندما برزت الحاجة إليها.
ولم تكن الأعمال الأدبية تحظي بمكانة كبيرة في تلك الفترة ولم تكن من أولويات القراء في روسيا القديمة. كان القراء يبحثون في المقام الأول عن الكتب التي تتحدث في المقدسات والمواعظ الدينية. ومن يريد أن يقرأ في الفلسفة فإنه يتوجه إلي الإنجيل. كما كانت الطباعة مكلفة وهو ما أثر بالسلب علي انتشار الكتب. وكانت المخطوطات هي الوسيلة الشائعة حتي منتصف القرن الثامن عشر. فقد كانت روسيا تعيش حياة القرون الوسطي حتي تولي الإمبراطورة يكاترينا التي عملت علي تطوير بلادها وهو ما انعكس علي سوق صناعة الكتب أيضا. ويرجع السبب في فقر الأدب الروسي نسبيا في تلك الفترة إلي ارتباط الثقافة الروسية القديمة أكثر بالعمارة والرسم مقارنة بالأدب. ولذا عادة ما يتم تقييم تلك الفترة من حيث الانجازات التي تحققت في مجال الفنون جميعا وليس الأدب وحده.
وتعد الطقوس الدينية أكثر المصادر تأثيرا علي الإنسان في روسيا القديمة. وعلي الرغم من محاولات السلاف في جنوب روسيا في القرن العاشر الميلادي محاكاة اللحن والإيقاع في اللغة اليونانية، غير أن الطقوس الدينية الروسية القديمة لم تستجب لمحاولات قرضها شعرا. ولذا لا تحظي الأشعار التي بقيت من تلك الفترة بأهمية كبيرة.
وفضلا عن الإنجيل وكتب الطقوس الدينية كانت كتب القديسين تحظي بأهمية كبيرة وكانت عادة عبارة عن سرد لحيواتهم. وأهمها كتاب حياة القديس ذهبي الفم. وكان معلما عظيما ومتحدثا بليغا. كما حظي القديس يوحنا الدمشقي بمكانة رفيعة أيضا.
وقد انتقل مركز الإمبراطورية الروسية القديمة إلي مدينة كييف في الفترة من القرن العاشر إلي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. وبرز في تلك الفترة طبقتان اجتماعيتان كان لهما السيادة وهما طبقة سكان المدن وطبقة الارستقراطية العسكرية. واتسم الأدب والفن في تلك الفترة أيضا بالطابع الديني. حيث خضع العسكريون لنفوذ الكنيسة، ولم تشهد تلك الفترة سوي عمل أدبي واحد كبير يمكن أن يعتبر من الروائع فعلا، ألا وهو الملحمة الشهيرة “حملة الأمير إيجور”
وقد تم العثور علي هذا الكتاب في عام 1795م، حيث عثر عليه أحد النبلاء في البلاط الإمبراطوري ويدعي أ. موسين بوشكين. وقد تم نسخ نسخة من الكتاب خصيصا للإمبراطورة يكاتيرينا الثانية وتمت طباعته للمرة الأولي في عام 1800م. واحترقت النسخة الأصلية من الكتاب إثر حريق في موسكو عام 1812م ما يضاعف من أهمية النسخة التي نسخت للإمبراطورة وما تبقي من نسخ من الطبعة الأولي.
وقد بدا هذا الكتاب في البداية منعزلا وخارجا عن السياق العام من حيث موضوعه وغير ذي صلة بما يجري من أحداث معاصره حينها. ومن الواضح أنه قد تمت كتابته مباشرة بعد وقوع الأحداث التي وردت به وربما في العام نفسه ويتسم السرد بكونه تاريخيا في الأساس حيث يتطابق وما ورد في المسرد التاريخي الأول لتاريخ دولة كييف. وتدل هذه الملحمة علي استخدام الشعر العلماني في روسيا القديمة حينها والذي بقي ولم يندثر بفضل المنشدين الذين كانوا عادة ينتمون إلي طبقة العسكريين. وقد تطور هذا النوع من الشعر في القرن الحادي عشر والثاني عشر.
ويعد هذا الكتاب الوحيد من نوعه في النثر السجعي. ومن الصعب أن ننسب هذا الكتاب إلي جنس أدبي معين. فلا هو شعر غنائي ولا ملحمي ولا نص سياسي بل هو مزيج من كل هذا. ويدور مضمونه حول الحملة الفاشلة التي قام بها الأمير إيجور ضد شعب الكومان وانتصاراته في البداية ثم هزيمته ووقوعه في الأسر. ثم يبدأ الجزء الثاني من الكتاب والذي هو عبارة عن استطراد طويل غنائي أو ربما خطابي يتحدث فيه المؤلف عن أمير كييف العظيم الذي يحلم بكابوس يرمز إلي حدوث مأساة لإيجور. ثم يتوجه المؤلف بالحديث إلي جميع الأمراء الروس واحدا تلو الآخر بدءا من سوزدال إلي جاليتسي ويدعوهم جميعا للتدخل وإنقاذ إيجور. ثم ينتقل المؤلف إلي الجزء الثالث من الكتاب ويحكي فيه عن هروب إيجور من الأسر ويتحدث أيضا عن نجاحاته الأولي ومن ثم هزيمته. وتتطابق الأحداث في الكتاب مع كل ما جاء في كتاب تاريخ دولة كييف.
وتعد ملحمة ” حملة الأمير إيجور” الأثر الأدبي الوحيد من الأدب الروسي القديم الذي يدرج بين كلاسيكيات الأدب الروسي. ولا يوجد شخص مثقف في روسيا إلا وقرأه ناهيك عن المتخصصين في الأدب والشعر. وبطبيعة الحال هناك فارق في المستوي بين هذا الشعر والشعر الكلاسيكي الروسي في عصر بوشكين مثلا، إلا أنه لا يمكن أن نعتبره شعرا سيئا. فإذا كان بوشكين شاعرا كلاسيكيا عظيما فإن مؤلف هذه الملحمة أستاذ بارع في الشعر الرمزي والرومانسي.
وقد انتشرت كتب حياه القديسين واعتبرت الجنس الأقرب إلي الأدب في حينها. وكان المؤلفون عادة من أصحاب الصيت الذائع والمكانة العالية وكان الناس يتناقلون هذه الكتب ويعيدون نسخها وقراءتها. ولعل أهمها ” قراءة في حياة واستشهاد بوريس وجليب” و “حياة الأب فيدوسي” في بديات القرن الثاني عشر.
وعادة ما كانت قصص حياة القديسين تكتب علي يد أصدقائهم المقربين بعد وفاة القديس مباشرة. وأحيانا يقومون بذلك في حياتهم ولكن بعد أن يتولوا المنصب الكنسي الرفيع. وكان الهدف من كتابه هذه السير التعريف بحياة القديس وذكر كراماته مآثره وتخليد ذكراه حتي تتعرف الأجيال التالية علي هذه الشخصية العظيمة.
وقد تمت ترجمة بعض سير حياه القديسين الأولي من اليونانية إلي الروسية و منها “حياه أنطونيو العظيم” و”حياة ألكسي الإنسان الرباني” وغيرها. وكان هذان الكتابان بمثابة اللبنة الأولي في تطور هذا الجنس الأدبي القديم. ومن سمات هذا النوع من الإبداعات أن القاص يتحدث بضمير الغائب وكانت تتكون من ثلاثة أجزاء مقدمة وسيرة حياة القديس ثم الخاتمة. وعادة ما يقوم المؤلف في المقدمة بطلب العفو من القراء علي عدم مقدرته علي الكتابة وعلي ضعف السرد الخ. ودائما ما تحتوي الخاتمة علي مديح للقديس هذا المديح يكون علي شكل قصيدة غنائية نثرية.
ويتطلب هذا النوع من الكتب الالتزام بتصوير البطل بطريقة معينه تتمثل إما في النقد الشديد أو المديح الشديد. فالشرير هو دائما الإنسان السلبي في الحياة أما القديس فهو دائما الإنسان الايجابي
ويختلف هذا الجنس الأدبي “حياة القديسين” عن السير الغيرية العادية ففي الأول لا يشترط حدوث تطور في العمر أو في شخصية البطل. فالقديس ثابت. هو قديس من لحظة ميلاده وهو مختار من الله.
ويسعي مؤلف هذا النوع من الكتب إلي استبعاد كل السمات الفردية في شخصية القديس وهو لا يعكس الواقع المحيط بقدر ما يفرض علي هذا الواقع مثله ومبادئه. وتأثرت هذه الكتب عن حياة القديسين بالحكايات الشعبية والفلكلور عموما.
أما أسباب ظهور هذا النوع من الكتب فهي التعرف علي ترجمات لكتب سير حياة القديسين البيزنطية وكذا كتب الأساطير وهو ما أثار لدي المثقفين الروس حينها السعي لتجربة مهاراتهم في هذا النوع من الكتابة.
ومن السمات المميزة أيضا لسير حياه القديسين التجريد حيث يتجنب المؤلف التحديد والدقة وسرد التفاصيل التي يمكن أن تشير إلي فردية الحدث أو المواقف. وهو أمر متعمد من جانب المؤلف حيث يسعي لدراسة حياة القديس خارج سياق الزمن والمكان إلي اللازمان و اللامكان، ولذا من المعتاد إسقاط الأسماء وتسميتهم بمكانتهم الاجتماعية وإسقاط المواقع الجغرافية والتواريخ المحددة وغيرها.
وقد استمر هذا الجنس في التطور في القرن الثالث عشر وشهد التزاما صارما من المؤلفين بقواعد هذا الجنس الأدبي غير أنه كثيرا ما فرضت الأحداث السياسية والتاريخية علي المؤلف الذي يضطر إلي الخروج عن تلك القواعد ويسهب في وصف الأحداث التاريخية والواقع المحيط والأحداث الواقعية في حياة البطل. فقد أضافت الحياة الواقعية لجنس سير حياة القديسين نوعا من الحيوية والتنوع الأدبي وعنصر التشويق في المضمون. وأصبحت هذه الكتب أقرب إلي الأدب الاجتماعي والتاريخي العلماني.
ومن أهم الأعمال التي صدرت خلال القرن الثالث عشر “قصة حياه ألكسندر نيفسكي” والتي تصور الأمير والقائد العسكري ألكسندر نيفسكي بصفته محاربا من أجل العقيدة الأرثوذكسية ويستشهد في سبيلها.
ويعد الكسندر نيفسكي من الأبطال البارزين في التاريخ الروسي وتولي إمارة منطقة نوفجورود بين عامي 1236-1251م ثم تولي إمارة فلاديمير من 1252-1263م. وقاد حروبا شرسة ضد المحتلين الألمان والسويديين. وقد اعتمد هذا القائد علي حب شعبه من البسطاء واستفاد من دعمه في حماية الأراضي الروسية من الأعداء.
ويري النقاد أن “قصة حياة ألكسندر نيفسكي” تنتمي إلي جنس السير الغيرية ويهدف الكتاب إلي إظهار أنه ورغم خضوع الإمارات الروسية إلي المنغول والتتار فقد بقي في روسيا أمراء قادرون علي مواجهة الأعداء.
وقد لعبت كتب الرحلات أيضا دورا كبيرا في تطور الأدب الروسي القديم. فقد بدأ الروس رحلاتهم إلي الأراضي المقدسة في فلسطين بعد دخول المسيحية رسميا، وتحولت هذه الكتب إلي نافذة للإبداع وإظهار المقدرة علي البلاغة في الوصف. ونذكر منها كتاب “حياة ورحلة حج رئيس الدير دانيال من أراضي روسيا” وهو لمؤلف مجهول سافر إلي الأراضي المقدسة في الفترة ما بين 1106-1108م ونقل من خلال كتابه انطباعاته عما رآه في تلك البلاد ووصف مدينة القدس ونهر الأردن والأماكن المقدسة. وينتمي الكتاب إلي حد ما إلي جنس يوميات الرحلة.
وفضلا عن هذا الكتاب تمثل كتب سرد الأحداث التاريخية الهامة أكثر الكتب والآثار الأدبية انتشارا في تلك الفترة. ويمثل هذا الجنس الأدبي سمة مميزة للأدب في فترة دولة كييف. واستمر هذا الجنس الأدبي حتي القرن السابع عشر. وكان المؤلفون في البداية من الرهبان ثم الكتبة الرسميين. وهناك مجموعتان من كتب السرد التاريخي تغطي فتره دولة كييف أولها يتناول الفترة من نشأة الدولة الروسية حتي عام 1116م. ثم هناك مجموعة كتب تاريخ كييف وتتناول الفترة من 1116م إلي 1200م. ويتناول الكتاب الأول تاريخ السلاف وأصولهم ثم انتشارهم في أصقاع روسيا وأوروبا وعاداتهم. كما يسرد الكتاب الأحداث التي وقعت في نهاية القرن التاسع وخلال القرن العاشر الميلادي. وينتهج الكتاب أسلوب التسلسل الزمني لسرد الأحداث من القديم للحديث. وفي أثناء ذلك يستخدم المؤلف الحكايات والأساطير الشعبية والتقليدية ما يمنح الكتاب جاذبية وتشويقا.
وكان الكتاب الثاني أقل جودة وإتقانا غير أنه يبقي مرجعا وأثرا هاما وأساسيا. ويتناول نضال الأمير إيزياسلاف الثاني للوصول إلي عرش كييف في الفترة من 1146م-1154م. وتتكشف من خلال الكتاب حياة الطبقة العسكرية الروسية والكتاب يفوح بالروح العسكرية والتعطش لتحقيق النصر والفوز بالشرف العسكري في ساحات القتال ويتميز بالحيوية في السرد. ولذا يعد هذا الكتاب من روائع الأدب التاريخي في فتره دولة كييف حتي إنه يتفوق علي كثير من الكتب التي ظهرت لاحقا في القرون الوسطي.
وهكذا يمكن القول إن أصول وجذور الأدب الروسي القديم تتأرجح بين الديني والتاريخي وتتسم بإعلاء القيم الروحية والدينية والأخلاق والمثل. كما أنها تدعو إلي إزكاء الروح الوطنية والدعوة لخدمة الوطن والأرض الروسية.
اللغة الروسية السلافية اللغة السلافية الكنسية النثر السجعي بوشكين شاعرا كلاسيكيا قصص حياة القديسين 2018-04-26