كتب د. محمد نصر الدين الجبالي .
“الدراما الروسية الجديدة”. يختلف النقاد في روسيا حول هذا المسمي و إطاره الزمني. وقد بدأت هذه الحقبة مع سعي كتاب الدراما لإصدار إبداعات جديدة مثلت ظاهرة في منتصف تسعينيات القرن الماضي واستمرت حتي وقتنا هذا.
شهدت نهاية القرن العشرين أحداثا ثورية كبري في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية من حياة المجتمع الروسي. وقد انعكس ذلك علي شكل ونمط حياة المواطن الروسي الذي تعامل مع هذه الصدمة الكبيرة بصبر واستيعاب. وكان المسرح والدراما أول الفنون التي لم تستشعر وتعكس التحولات التاريخية في البلاد فحسب بل ولعبت دورا هاما في إحداث هذه التحولات. حيث اتسمت الأعمال المسرحية التي سبقت انهيار الاتحاد السوفيتي بنزعة نحو التمرد علي الواقع والسخرية منه. ويمكن تقسيم تطور المسرح الروسي الحديث والمعاصر إلي ثلاث مراحل مهمة ارتبطت بخصوصية الوضع الثقافي في كل منها. المرحلة الأولي هي التي سبقت البيروسترويكا مباشرة واتسمت بالواقعية ثم كانت مرحلة الحداثة وأخيرا مرحلة ما بعد الحداثة.
وقد عانت الدراما الروسية شأنها شأن الأدب الروسي عامة من حالة من الازدواجية الجمالية في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحالي، حيث نجد فيها في آن واحد ملامح وسمات لتيارات الواقعية والحداثة وما بعد الحداثة. وقد شارك ممثلو أجيال مختلفة من الأدباء في كتابة إبداعات هذه المرحلة. ولعل أهمهم ليودميلا بيتروشيفسكايا و الكسندر كازانتسيف . ومن ممثلي تيار ما بعد الحداثة هناك فلاديمير ساروكين وهناك أيضا جيل التسعينيات. وهناك مجموعة كبيرة من كتاب الدراما الروسية تستحق أن يلقي الضوء علي أعمالهم ونذكر منهم ميخائيل أوجاروف وإدوارد جريشكوفيتس و كسينيا دراجونسكايا ويفجينيا ميخايلوفا وألكسي سلابوفسكي وغيرهم.
وقد تأثرت الدراما الروسية المعاصرة بما يعرف بالوثائقية أو التوثيق. وقد كان الكسندر سولجينيتسن الروائي الروسي الكبير وصاحب نوبل رائدا لهذا النوع من النثر. وانعكس ذلك علي الدراما في تلك الفترة حيث نجدها تقترب في معظمها من الإنسان الحقيقي والبيئة الواقعية.
وتعد الدراما الوثائقيه من أهم الظواهر الأدبية في المسرح الروسي المعاصر.ويساعد الأسلوب التوثيقي علي إحداث تغيير مستمر في حالة المؤلف المسرحي حيث لا يلزمه التأليف بقدر ما يلزمه انتقاء وتهيئة حوار حقيقي استمع اليه أو قام بتسجيله. فلا حاجة هنا للخيال.
تلك المنهجية السهله والمقتبسة من المسرح الإنجليزي أتت بثمار واضحة في المسرح الروسي. حيث ظهر في موسكو مسرح جديد يحمل اسم “المسرح الوثائقي” ومن أهم المؤلفين يلينا إيسايفا “مسرحية الرجل الأول”.
وفي نهايات القرن الماضي ظهر جيل من كتاب الدراما الروسية أطلق عليه جيل ذوي العشرين ربيعا. وقد اتسمت كتاباتهم بنوع من التشاؤم وتمركزت حول موضوع الشر وإبراز العنف وانعدام الإنسانية التي غالبا لا تكون من الحكومة بل الشر الكامن في العلاقات بين البشر والذي يؤكد أن أرواحهم قد بلغت حدا لا علاج له من التشوه. ونذكر من هؤلاء الكتاب كلا من فاسيليسيجاريف صاحب مسرحية “الحليب الأسود” وقنسطنطين كوستينكو صاحب مسرحية “كلاوسترافوبيا” وإيفان فيرابايف ومسرحيته ” الأوكسجين”. هذا العدد الكبير من المسرحيات التشاؤمية يؤكد علي حالة اليأس وانعدام الأمل التي سادت هذا الجيل من الشباب وفقدان الثقة في القيم الحضارية المعاصرة وفي الإنسان نفسه. ويحاول الكتاب الشباب في مسرحياتهم الدفاع عن مبادئ الإنسانية وقيمها.
ومن السمات الأساسية للدراما الروسية المعاصرة البعد عن التعميم وقلة الاهتمام بدراسة القيم الثقافية في المجتمع والتركيز علي التجارب الفردية الشخصية اليومية. أما فيما يتعلق ببنية النص المسرحي واللغة فنجد أن الكاتب يسمح لنفسه باستخدام مختلف مستويات اللغة بحرية تامة. كما يتحرك بحرية تامة في بناء الرواية المسرحية دون التقيد بأطر صارمة، حتي أن الكثيرين من النقاد يرون أن الدراما الروسية المعاصرة تفتقد الأسلوب الخاص بها فهي متنوعة مثل الحياة وتتغير من وقت لآخر وبوتيرة مستمرة.
ويعد الموضوع الأساسي للدراما الروسية المعاصرة الإنسان والمجتمع. واهتم معظم كتاب الدراما الواقعيين بالتعبير عن العصر من خلال أبطالهم و من هذه المسرحيات نذكر “المسابقة” لألكسندر جالين و”شغف فرنسي في ضواحي موسكو” لرزوموفوسكايا و”إنترفيو حول موضوع الحرية” لأرباتوفا وغيرها. وقد احتلت الكاتبة ماريا أرباتوفا مكانة هامة بين كتاب التسعينيات بفضل تركيزها علي الأدب النسائي في كتاباتها وهو موضوع جديد علي الأدب الروسي بصفة عامة.
ومن أهم الموجات التي ظهرت في تلك الفترة أيضا إعادة الكتابة المسرحية للعديد من المؤلفات الشهيرة حيث توجه كتاب الدراما الروس إلي أعمال شكسبير مثلا و ظهرت نسخة مسرحية روسية من “هاملت” تأليف الكاتب بوريس أكونين ونسخة أخري من تأليف بيتروشيفسكايا ونسخة ثالثة من تأليف كليم.كما قام بعض الكتاب المسرحيين بتحويل الأعمال الكلاسيكية الروسية إلي مسرحيات ومنها أعمال الكسندر بوشكين وفيودور دوستويفسكي وليف تولستوي وأنطون تشيكوف وغيرهم.
ويمكن القول أن الدراما الروسية المعاصرة استطاعت تجديد معايير الجمال في إطار واقعي واستحدثت اتجاهات جديدة ونماذج جديدة من الأبطال وتناولت الواقع اليومي بقسوته وأعادت إحياء شخصية “الإنسان البسيط” التي عرفها القارئ في أعمال عظماء الأدب الروسي أنطون تشيكوف وفيودور دوستيوفسكي وغيرهما.
وقد بقيت تقاليد تشيكوف حاضرة في إبداعات المسرحيين الروس في أواخر القرن الماضي. ونجد ذلك ماثلا بوضوح في أعمال ن. كوليادي “مسرحية “النورس يغني” و ب. أكونين في مسرحية “النورس” و ي. جيرمينا في مسرحية “الزوجة السخالينية”.
ومن أهم كتاب المسرح الروسي حاليا نذكر بيتروشيفسكايا وكوليدي حيث يتمتع كلاهما برؤيته الخاصة للعالم المحيط بالإضافة الي منظومتة الدرامية الخاصة به والتي تتطور من عمل للآخر. ولهذا يحظي هذان الكاتبان باهتمام كبير من النقاد والقراء ورجال المسرح.
وهكذا لا يمكن وصف الدراما الروسية المعاصرة بكونها إتجاها أدبيا كاملا. غير أنه يمكن النظر اليها كونها ظاهرة هامة تستحق التحليل.كما يمكن القول أن التنوع يمثل السمة الاساسية للدراما الروسية المعاصرة وهو ما يعكس الطابع الفني التجريبي للحياة الأدبية في روسيا الحديثة.
للإطلاع على مصدر المقال : https://www.masress.com/adab/10902