في ذكري مرور 200 عام علي مولده إيفان تورجينيف ..أفضل من تغنَّي بالطبيعة
نشرت بواسطة: admin
في مقالات
سبتمبر 23, 2018
475 زيارة
كتب د. محمد نصر الدين الجبالي
يُعتبر إيفان تورجينيف (1818 – 1893 م) واحدًا من أهم كُتَّاب العالم في القرن التاسع عشر، و أحد كبار الكُتاب الروس في العصر الذهبي للأدب الروسي، استطاع هذا الكاتب، الذي نحتفل – هذا العام- بمرور 200 عام علي ميلاده، تأسيس منظومة فنية جديدة، كان لها عظيم الأثر في إحداث ثورة في بنية الرواية في روسيا و العالم. تعرَّضت كتاباته في حياته مرات للمديح، و مرات أكثر للانتقاد، فيما قضي هذا الأديب سنوات حياته بحثاً عن الطريق الذي يجب أن تسلكه روسيا نحو الازدهار و الرخاء. ويُعد- بحق- أستاذًا و رائدًا في التحليل النفسي، و كان له أثر عظيم في تطور الأدب و الثقافة الروسية.
تعود أسرة تورجينيف إلي أصول أرستقراطية، حيث كان أبوه سيرجي تورجينيف من قادة سلاح الفرسان، و أمه فارفارا لوتوفينوفا من المُلاَّك و أصحاب الأراضي الأثرياء. وُلد تورجينيف في مدينة أريول الصغيرة في عام 1818 م ، و في سن التاسعة، انتقلت الأسرة إلي موسكو، و بعد وفاة أبيه، سافر الشاب تورجينيف إلي بطرسبورج، حيث التحق هناك بكلية الفلسفة، و في عام 1836م عرض تورجينيف أولي أشعاره علي الأديب بيتر بليتنيف، الذي قام بدعوة الشاعر الشاب إلي أمسية شعرية و أدبية، و هناك التقي- للمرة الأولي- الشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين، و في أثناء دراسته الجامعية، كتب أكثر من مائة قصيدة شعرية، و في عام 1838 م نشر تورجينيف أولي قصائده الشعرية في مجلة »سوفريمينيك» (المعاصر). و في العام نفسه توجَّه إلي ألمانيا. كانت الرغبة في استكمال دراسته تمتزج مع رفضه للواقع الروسي و كراهيته للقانون الإقطاعي القائم. وعاش تورجينيف في برلين لمدة عام تردد فيها علي محاضرات بالجامعة، و درس اللغات الكلاسيكية، و كتب الشعر، و عاد إلي روسيا لفترة قصيرة، ثم سافر مرة أخري إلي إيطاليا و ألمانيا.
وبعد إنهاء دراسته الجامعية، سافر تورجينيف إلي أوروبا لمواصلة دراسته، وتوصل إلي نتيجة مفادها: أنه علي روسيا التخلص من الجهل الذي تعاني منه، وأن تتبع النموذج الأوروبي.
وفي الأربعينيات من القرن التاسع عشر، عاد إلي وطنه روسيا، وتعرَّف علي كبار الكُتاب الروس حينها، أمثال: جوجول، و أكساكوف، و خومياكوف، ودوستويفسكي، وغيرهم.
وفي نهاية الأربعينيات، كتب العديد من المسرحيات، منها: مسرحية »الأعزب» و»شهر في قرية» و »فتاة القرية»، التي نالت شهرة و نجاحًا كبيرًا بين الجمهور والنقاد. وبعدها بسنوات قليلة صدرت مجموعة القصص القصيرة »مذكرات صياد»، وتعكس المجموعة كراهية الكاتب لنظام الإقطاع السائد في روسيا حينها. ونلحظ من خلال هذه المجموعة القصصية، موهبة الكاتب الكبيرة، و فهمه العميق وإحساسه بالطبيعة. ويُعد هذا الكتاب من بين أوائل المؤلَّفات التي تتحدث عن مآسي نظام الإقطاع. وقد حُكم علي الرقيب الذي سمح بنشر المجموعة بالإحالة إلي التقاعد، وحرمانه من مستحقاته المالية، فيما تم منع إعادة نشر الكتاب مرة أخري. واُتهم تورجينيف بأنه يقوم بعملية تسييس للأمر، ومبالغة في تصوير معاناة الشعب من سطوة مُلاَّك الأراضي الزراعية.
وفي عام 1856 م ، صدرت أولي روايات الكاتب ،التي تحمل عنوان »رودين»، وقد استغرقت كتابة الرواية سبعة أسابيع فقط، وأصبح اسم البطل رمزًا للإنسان الذي لا تتفق أقواله مع أفعاله، وكانت هذه الرواية بمثابة انطلاقة لسلسلة من أعمال تورجينيف الكبيرة، التي تتمحور حول شخصية البطل المفكر، صاحب الأيديولوجية، الذي يرصد »الواقع السياسي» والاجتماعي. ويطرح المؤلف قضية الأهمية الإجتماعية لهؤلاء الناس من أمثال رودين ، ودورهم في تاريخ الفكر الإجتماعي الروسي. وبعد ثلاث سنوات صدرت روايته الجديدة »بيت النبلاء» ، حيث لاقت نجاحًا منقطع النظير في روسيا، حتي إنه يمكن القول: إنه لا يوجد شخص متعلم في روسيا إلا وقد قرأ هذه الرواية. تمحور الرواية حول قصة حب عميق في مأساويته. وهي في الوقت ذاته رواية عن الواجب الأخلاقي، والإيثار، ومعني الحياة.
وفي بداية الستينيات من القرن التاسع عشر، صدرت مقتطفات من روايته الأشهر »آباء و أبناء». و تتناول الرواية المزاج الشعبي في تلك الفترة، وخاصة الرؤي العدمية التي سيطرت علي شباب روسيا. وقد وصفه الكاتب والفيلسوف الروسي نيقولاي ستراخوف قائلا: »أظهر تورجينيف مقدرة كبيرة علي الحفاظ علي روعة الأدب، و في الوقت نفسه علي توظيفه في خدمة المجتمع».
ونالت الرواية استحسان النقاد، غير أنها هُوجمت من قِبل الليبراليين، وساءت علاقة تورجينيف بالكثير من أصدقائه في تلك الفترة، و منهم علي سبيل المثال: الكاتب الكسندر جيرتسين ، الذي كان يري أن مستقبل روسيا الحقيقي في تحقيق الاشتراكية الزراعية، معتبرًا أن أوروبا البرجوازية قد انتهت، فيما كان تورجينيف يدافع عن فكرة دعم روابط الثقافة بين روسيا والغرب.
ناصر تورجينيف هذه الفكرة بقوة حتي أطلق البعض عليه لقب »الكاتب الأوربي» في الأدب الروسي. و تعرَّض تورجينيف لانتقادات لاذعة مع صدور روايته الجديدة »الدخان»؛ لأن تلك الرواية كانت تسخر بشدة من الطبقة الأرستقراطية المحافظة في روسيا، و من طبقة الليبراليين الداعين للثورة في الوقت نفسه.
وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، عاش تورجينيف في باريس، وكان نادرًا ما يزور وطنه روسيا، و شارك الكاتب بشكل نشط في الحياة الثقافية في أوروبا الغربية، ودعا الأوربيين لقراءة الأدب الروسي والثقافة الروسية. وكانت هناك اتصالات ورسائل بينه وبين تشارلز ديكينز، وجورج ساند ، وفيكتور هوجو، وجان دي موباسان، وجوساتف فلوبير، وغيرهم.
وفي النصف الثاني من السبيعينيات، نشر تورجينيف روايته الكبري »الأرض العذراء» تعرض فيها بالانتقاد الشديد لأعضاء الحركة الثورية في سبعينيات القرن التاسع عشر.
وقد كشفت أعماله الأخيرة عن اغترابه الشديد عن روسيا. وبالطبع لم تلق الرواية الأخيرة قبولاً من رفقائه، حتي إن الكاتب الكبير سالتيكوف شيدرين، وصف الرواية بأنها قدَّمت خدمة عظيمة للحُكم المطلق في روسيا، غير أن أعمال تورجينيف السابقة ظلت تحظي بشهرة و انتشار واسعين.
ونال الكاتب في سنواته الأخيرة شهرة كبيرة، سواء في روسيا أو في خارجها. وكان كتابه الأخير بعنوان »أشعار نثرية» ، التي بدأها بقصيدة بعنوان: »القرية»، وختمها بأخري بعنوان »: اللغة الروسية». وكانت هذه المجموعة الشعرية بمثابة وداع للأديب مع الحياة و الفن عمومًا.
وفي تلك الفترة أيضًا، التقي تورجينيف مع حبه الأخير الفنانة ماريا سافينا، وكانت تبلغ من العمر 25 عامًا فقط. و رغم اعترافه بحبه لها فإنها كانت تعتبره صديقًا يعتمد عليه، و لم تكلل العلاقة بالزواج.
ومرض تورجينيف مرضًا شديدًا في نهاية حياته، وتُوفي في الثالث من سبتمبر عام 1883م في باريس. و نظمت مراسم جنازة ضخمة للأديب الكبير في باريس، ثم تم نقله إلي بطرسبورج الروسية، حيث دُفن هناك، وكانت وفاته بمثابة صدمة عنيفة لمحبيه واحتشد الجماهير بعشرات الآلاف في وداعه.
تغنَّي تورجينيف بالطبيعة في كل أعماله تقريبًا. الطبيعة لديه لا تنفصل عن حياة البطل، و مزاجه و عالمه الداخلي ومعاناته. وصْف الطبيعة لديه ليس فقط مسهبًا وباستخدام ألفاظ جميلة و عبارات مبهرة، بل و تحمل في طياتها زخمًا شعوريًّا ونفسيًّا قويًّا، يترك تأثيره علي القارئ. استخدم تورجينيف وصف الطبيعة للكشف عن العالم الداخلي لأبطاله، و في كثير من المرات عن معاناته الشخصية، و كثيرًا ما يبدو مهمومًا بكشف ألغاز الطبيعة و العالم المحيط. و قد استفاد الكاتب من إتقانه للغة الروسية، و مفرداته في التعبير عن جمال الطبيعة.
بقي تورجينيف من أكبر أدباء روسيا، وبقيت أعماله حتي يومنا هذا، وستبقي لكون القضايا التي تناولها تتسم بالخلود. ويُعد- بحق- أقدر أدباء روسيا علي الكتابة بحِرفية وإتقان و فهم لبناء النص، حتي إن القارئ العادي يجد صعوبة بعض الشيء في فهم كتاباته و تذوقها. وسيظل اسمه لعقود و قرون أخري عديدة لكونه خاض طيلة حياته نضالاً حقيقيًّا من أجل القارئ، و قدم للعالم مثالاً فريدًا لكيفية ربط النص الأدبي بالأيديولوجيا.
للإطلاع على مصدر المقال :
2018-09-23