صورة إفريقيا في الأدب الروسي في عصره الذهبي
نشرت بواسطة: admin
في Uncategorized
مايو 2, 2019
370 زيارة
كتب د. محمد نصر الدين الجبالي :
اهتمَّ الأدب الروسي بالحضارات المحيطة به منذ نشأته، وبعد تولي القيصر بطرس الأكبر الحكم في عام 1682م، أوليَ اهتمامه بالانفتاح علي الحضارات الأخري، خاصة المجاوِرة لإمبراطوريته، وكان من أوجه الاهتمام تشجيع العلماء والمفكرين والأدباء الروس علي السفر إلي قارات العالم القديم، والتعرُّف علي هذه الثقافات. ورغم بُعد المسافة التي تفصل الإمبراطورية الروسية عن القارة السمراء، وصعوبة الظروف التي كانت تعيشها إفريقيا في تلك الفترة؛ فإنها لم تبقَ بعيدة عن اهتمام الأدباء الروس.
ومن بين أهم المصادر التي اعتمد عليها الروس في تكوين صورة عن القارة الإفريقية، كان الأدب الروسي؛ حيث كان لإفريقيا تأثير جلِيٌّ منذ بدايات القرن التاسع عشر في كتابات الأدباء الروس، ولعلَّ أشهرهم الشاعر الكبير ألكسندر بوشكين ، الذي تحتشد في كتابه: »عبد بطرس الأكبر» العناصر والإشارات الافريقية، ويتناول فيها رؤية المواطن الروسي للقارة السمراء في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد ورث الأدباء الروس فيما بعد تقاليد بوشكين في تناول إفريقيا في كتاباتهم.
وقد تناول العديد من النقاد الروس هذا الموضوع في كتاباتهم ونحاول في هذا المقال القصير التوقف عند أهم ملاحظاتهم. ولعل أشهرهم ف.كوفشينوف الذي يعدد مواطن تأثر الكتاب الروس الكلاسيكيين (بوشكين، ليرمونتوف، جونشاروف وتشيخوف) بالموتيفات الإفريقية. ويرجع الفضل لبوشكين في لفت الاهتمام بهذا العالم الجديد علي الشعب الروسي. حيث ساعدت كتاباته علي بلورة صورة معينة عن القارة السوداء، تتسم بالغموض والأسطورية أحيانًا، وبالرومانسية في أحيان أخري، كما تبدو إفريقيا في كتاباته وأشعاره، بلادًا تنعم بالحرية علي النقيض من روسيا.
كما ورد اسم إفريقيا في أشعار ميخائيل ليرمونتوف، وعلي الرغم من اطلاع الشاعر علي العديد من الدراسات والأبحاث عن القارة السمراء، فإنه ذكرها مرات قليلة في قصيدته: »السكن الجديد الأخير»، حيث يصوِّر فيها سهول ووديان مصر في خِضَم حديثه عن حملة نابليون بونابرت علي إفريقيا، ثم وردت مرة أخري في قصيدة: »الجدال»، وتحدَّث فيها عن تدفق مياه النيل الصفراء بفعل كثرة الطمي فيها.
ثم ورد ذكر إفريقيا في كتابات الأديب إيفان جونشاروف، الذي كان له الفضل في تقريب صورة إفريقيا من وعي القارئ الروسي، ونزع عنها الغموض الذي اتسمت به في السابق، وسار علي نفس النهج كتَّاب آخرون مثل إيفان بونين ونيقولاي جومليوف. ففي قصته القصيرة: »الدلتا» يصف بونين بالتفصيل زيارته الأولي إلي إفريقيا، حيث أُعجبب الغرفة التي كان يقطنها والطعام الذي تناوله وانطباعاته عن سفرته بالقطار في القاهرة،وغير ذلك. كما كتب جوموليوف في: »يوميات إفريقيا» وصفًا تفصيليًّا لزيارته.
وفي مسرحيته الشهيرة: »الخالة فانيا» (1897م) وصف أنطون تشيخوف خريطة أفريقية المعلَّقة علي حائط الغرفة، كما جاء ذكرها في نهاية المسرحية، بوصفها رمزًا للشيء البعيد العديم الأهمية ، الذي لا يكترث به شخوص المسرحية.
وصوَّر الأدباءُ الروسُ إفريقيا بوصفها مكان الصدام بين قوي الشر وقوي الخير، ويبدو ذلك جليًّا في قصة: »ماكسيمكا» قنسطنطين ستانيوكوفيتش (1896م)، ويتحدث فيها عن حالة التخلف الذي يعاني منها سكانها وعن التدني الأخلاقي. الذي يتسم به المستعمرون.
ووفقا لكوفشينو فتصور إفريقيا في الأدب الروسي في القرن العشرين بوصفها المكان الذي سيشهد صراعًا، ومعركة بين القوي الاستعمارية الرأسمالية من ناحية وبين الشيوعية والبروليتاريا والعدالة من ناحية أخري. ونلحظ ذلك بجلاء في قصيدة بوريسكورنيلوف: »قارتي إفريقيا» (1935م)، و قد صدر في عام 1973م كتابٌ يحمل الاسم نفسه من تأليف يوري ناجيبين ، يضم مجموعة من القصص القصيرة، كتبها المؤلِّف أثناء زياراته المتعددة إلي القارة السمراء، ويتعرَّف من خلالها القارئ علي عالم الحيوان، والطبيعة، والفنون، وشكل الحياة الاجتماعية، والمشكلات اليومية لسكان إفريقيا، و خاصة بلدان مصر، و تونس، و المغرب، و السودان، والكونغو، و كينيا، و نيجيريا.
ويُعتبر نيقولاي جوموليوف أولَ الأدباء الذين تناولوا القارة السمراء بوصفها كوكبًا خياليًّا، تحيط به الألغاز والغموض، ويكاد يضاهي صورة الهند في وعي القارئ الروسي، وقد كتب جوموليوف الكثير من الأعمال عن إفريقيا، وصوَّرها، وكأنها الجنة المفقودة علي الأرض، ونذكر منها كتابه: »يوميات إفريقية» 1913م، وتكرر نفس الموتيف (تصوير إفريقيا كجنة مفقودة) في أعمال أدباء آخرين، نذكر منهم أركادي أفيرتشينكو: »مزحة فاعل خير» و »وفاة صياد أفريقي» 1914م.
ومن أشعار جوميليوف عن مصر :
من ذاق يومًا ماء النيل
ستهفو نفسه إلي القاهرة
ليبق السادة هنا من الإنجليز
لا همَّ لهم إلا شرب الخمر ولعب الكرة
فيما الخديوي هناك بعيدًا
في برجه العاجي
رأي جوموليوف في إفريقيا مصدرًا للإلهام الروحي؛ ولذا فقد سيطرت القارة السمراء علي كتاباته التي قدَّم فيها إفريقيا بوصفها قارةً قوية ًمليئةً بالألغاز، والغموض، والمخاطر، والقوة، والعظمة.
كما تعرَّف الأطفال في روسيا علي إفريقيا، بفضل القصائد الشعرية الكثيرة، ومن أشهرها كتابات كورني تشوكوفسكي. التي استخدم فيها أسماء الحيوانات والمدن الإفريقية، وكذا الظواهر والخرافات، وبفضل أشعاره تعرَّف الأطفال الروس علي هذه الأرض الغامضة الخيالية، وكوَّنوا تصورًا كاملاً عنها من خلال الشعر.
وفي القرن العشرين، ووفقا لكوفشينو فأضحت إفريقيا لدي الكثير من الكتَّاب الروس منارةً للأمل، وجنةً علي الأرض، يجب السعي للوصول إليها، وظهر ذلك جليًّا في كتاب يفجيني زامياتين: »أفريقيا» 1916م، غير أن أفريقيا بقيت جنةً يصعب تحقيقها علي أرض الواقع الروسي. بقيت إفريقيا شيئًا ساحرًا خياليّا.
وفي الوقت نفسه، و كما يري الناقد بيول ف. في كتابه »رسائل من إفريقيا» كانت هناك كتابات تتحدث عنها بوصفها جحيمًا، و رمزًا للوحشية و التخلف. ويهدف هؤلاء إلي المقاربة بينها وبين روسيا، التي لم تكن -في وجهة نظرهم-أكثر تطورًا من إفريقيا، ومثال ذلك كتاب: »علي المحطة» للأديب ليونيد أندرييف (1903م) و رواية: »الظلمة المصرية» للأديب ميخائيل بولجاكوف ( 1925م)، حيث سعي الكاتبان إلي طرح المأساة الروسية باستخدام مفردات ومؤثرات إفريقية. ومثال آخر للاهتمام بإفريقيا، هو كتاب نيقولاي زابولوتسكي: »رسائل من إفريقيا» (1928م)، الذي يصف فيه تفصيلاً واقعًا، وعادات الشعوب الأفريقية، واعتبر الكتاب مادة وافية للباحثين والأطفال في المدارس.
و يري الباحث أ.دافيدسون أن اهتمام الأدب السوفيتي بإفريقيا كان بمثابة وسيلة للسيطرة علي الأحزاب الشيوعية في القارة،حيث كان من المهم حشد التعاطف الشعبي تجاه شعوب القارة، وبدا ذلك جليًّا في مقررات المدارس وأدب الأطفال، الذي تناول البشاعات التي ترتكب في القارة السمراء من المستعمرين.
وهكذا تراوحت صورة إفريقيا في الأدب الروسي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بين القول بأنها جنة مفقودة علي الأرض والقول بأنها رمز للوحشية والتخلف والفقر. الأمر المؤكد أن الاهتمام بإفريقيا في الأدب الروسي لم يكن مصادفة ويرجع ذلك لأسباب معرفية في المقام الأول (القرن التاسع عشر وما سبقه) وأيديولوجية في المقام الثاني (القرن العشرين). وشاع استخدام نموذج القارة السوداء كمكان يمكن أن يشهد كل الاسقاطات المحتملة عن الواقع والحياة اليومية الروسية كما بدت رمزا للمكان البعيد وللحلم الذي يجب السعي لتحقيقه سواء مهما كلف الأمر.
للإطلاع على مصدر المقال :
https://adab.akhbarelyom.com/newdetails.aspx?sec=%D8%B9%D8%AF%D8%AF%20%D8%AE%D8%A7%D8%B5&g=8&id=543129
2019-05-02