كتب د. محمد نصر الدين الجبالي .
شهدت الستينيات من القرن الماضي ظهور جيل من شباب الكتاب الروس شكلوا ظاهرة أدبية فريدة. وضم هذا الجيل كل من: مارك مكسيموف وجيورجي فلاديموف وأناتولي بريستافكين وأناتولي جلاديلين وفاسيلي أكسيونوف في النثر وكل من : يفجيني يفتوشينكو وأندريه فوزنيسينسكي وروبرت روجديستفينسكي في الشعر. وصور هؤلاء الأدباء في كتاباتهم نموذجاً جديداً للبطل في الأدب و هو الشاب في مقتبل حياته والذي يسعي لمجابهة الواقع و رفضه في بعض الأحيان.
وقد وصف النقاد هذه المجموعة من الأدباء بالأدباء الستينيين و أدبهم “بالأدب الشاب”. وقد مثلت كتاباتهم ثورة في الأدب الروسي حيث كان البطل شخصا ثائرا يحتج علي الواقع المحيط وعلي القوانين السائدة وعلي النمط الرتيب في الحياة وعلي الذوق العام والعادات. وتجسد ذلك في تصوير مظهر البطل، واهتماماته بالثقافات الأخري، وولعه بالموسيقي الغربية، و نظرته التشاؤمية للقيم الفكرية والأخلاقيه السائدة بين الجيل الأكبر حتي وصل الأمر إلي إنكارهم لهذه القيم إجمالا.
ويعد الكاتب فاسيلي أكسيونوف من رواد هذا الجيل وربما هو الاسم الأبرز بين ممثلي هذا التيار. ذاع صيته شرقا وغربا وعاصر سنوات التحولات الكبري في روسيا. ولد أكسيونوف بمدينة كازان عام 1932م، وكان أبوه يعمل عمدة للمدينة وكان أخوه يعيش في مدينة ليننجراد، واستشهد أثناء الحصار. وقد تعرض والداه للقمع من جانب السلطات وتولي عمه رعايته بعد أن قضي سنوات في ملجأ لأطفال “أعداء الشعب”. وعلي الرغم من المعاناة والظلم اللذين تعرض لهما والداه إلا أن أكسيونوف لم يهاجم السلطات أو يتخذ مواقف معارضة سياسيا، بل تجلت روح المقاومة فيه من خلال أسلوبه وسلوكه المتحرر.
وكان اختيار أكسيونوف لمهنة الطب عملا بنصيحة والديه حتي ينجو من السجن والنفي. و لذا فقد التحق بكلية الطب جامعة كازان إلا أنه تم فصله من الجامعة بسبب الحكم علي أبويه. وسافر إلي موسكو حيث نجح في إعادة التسجيل ثم انتقل إلي معهد الطب بجامعة ليننجراد. وكان من المفترض أن يعين طبيبا علي سطح باخرة إلا أنه حرم من الحصول علي الوظيفة بسبب تهمه والديه أيضا علي الرغم من العفو عنهما وإعاده الاعتبار إليهما. وسافر الطبيب الشاب للعمل في الشمال الروسي.
وفي عام 1958م نشرت أولي أعمال الكاتب في مجله “الشبابثم تلتها في 1960م روايته “الزملاء والتي أصبح بفضلها كاتبا معروفا. ويعد هذا الكتاب أول عمل جاد للكاتب حيث استخدم فيه موتيف “الطريقب شكل ظاهر، حيث يقرر بطل القصة الخريج الجامعي أن يسافر للعمل في قرية نائية فيما يسافر أصدقاؤه للعمل علي ظهر سفينة في بحر البلطيق. وهكذا يصور الكاتب رحلة حج أبطاله بحثا عن فكرة أو فلسفة ما جديدة في الحياة، أو مثال رومانسي، وهو بمثابة هروب من الواقع اليومي إلي مكان يمكن أن يعيش الإنسان فيه حياته الكاملة.
ونجد الفكرة نفسها تمثل محور قصته “تذكره إلي النجوم1961م حيث يسافر البطل مع رفاقه في رحلة لمدة غير معلومة. يفر الأبطال من واقعهم الاجتماعي، و يحاولون العثور علي فضاء خيالي وحرية كاملة ولو مؤقتة.
وأثارت كتاباته في الستينيات (“تذكره إلي النجوم و”البرتقال المغربي و”حان الوقت يا صديقي. حان الوقت”) ردود فعل رافضة من جانب السلطات. وتعرض الكاتب للتهميش والتضييق ورفضت دور النشر طباعة أعماله.
وفي قصته “النصر” 1965م تدور الأحداث في كابينة قطار حيث يلتقي البطل بأحد الأشخاص في القطار ويحاولان قتل الوقت بلعب الشطرنج. ومن خلال رقعه الشطرنج يصور الكاتب لوحة لمصير الإنسانية، وهو رمز شاع تداوله بين الكتاب في تلك الفترة كما في فترات أخري. وفي عام 1968م انتهي الكاتب من قصته الشهيرة “أكياس التغليف المكدسة” وتعكس بجلاء مبادئ التيار الأدبي الجديد. ومره أخري يبتعد الكاتب عن المنحي الواقعي التقليدي. وقد اتسمت إبداعات الكاتب منذ بداياته بعدم الالتزام بالسمات التقليدية في الواقعية. حيث ينحو الكاتب إلي الاستفادة من أدوات اتجاه ما بعد الحداثة.
وفي عام 1975م كتب روايته “حرقة” ومنعت الرواية من النشر حيث اتهم بأنه كاتب غير سوفيتي. وفي عام 1979م كتب روايته “جزيرة القرم” ولقيت المصير نفسه. وساهم الكاتب في نفس العام في إصدار مجله أدبية معارضة لا تخضع للرقابة الأدبية وكانت تصدر في أمريكا وسميت “ميتروبول”. وكان الكاتب قد ذاع صيته في روسيا والعالم وكان يحظي باحترام الكتاب الموالين للسلطات السوفيتية. إلا أن إصدار مجلة “ميتروبول” والانتقادات التي وجهت إليه بسببها وانسحابه من اتحاد الكتاب السوفيت احتجاجا علي فصل زميليه: فيكتور يروفييف ويفجيني بوبوف،كان سببا في سفره في عام 1980م إلي الولايات المتحدة الأمريكية. وبمجرد وصوله علم أنه وزوجته قد حرما من الجنسية السوفيتية.
واستقر الكاتب في واشنطن حيث عمل بالتدريس بالجامعات الأمريكية. وفي أمريكا أصدر روايته “صفار البيض” في عام 1989م والتي كتبها بالانجليزية ثم قام بنفسه بترجمتها إلي الروسية. كما أصدر كتابا بعنوان “بحثا عن حبيبي الحزين” 1987م تناول فيه انطباعاته عن الحياة في أمريكا. وفي 1992م صدرت الثلاثية الشهيرة “الخرافة الموسكوفية”. وتصور الرواية أكثر الأحداث المأساوية في التاريخ الروسي المعاصر خلال الفترة من بداية العشرينيات إلي بداية الخمسينيات من القرن الماضي وأهمها الحكم الشمولي ومعسكرات الاعتقال والحرب ضد الفاشية. وفي عام 1989م زار الاتحاد السوفيتي، وفي العام التالي أعيدت إليه الجنسية ولكنه لم يعد إلي الوطن مباشرة بل انتقل إلي فرنسا في نهاية 1990م وكان دائم السفر إلي موسكو لكنه لم يعد نهائيا إلي الوطن إلا عام 2007م. ومن مؤلفاته في المهجر أيضا رواية “الطبيعة الورقية” و”عشر سنوات من الدسائس كما ألف عده مسرحيات نذكر منها “آه يا أرتور شوبنهاور” و في عام 2004م نال جائزة بوكر عن رواية “الفولتيريون و الفولتيريات الجدد” ثم نال في العام التالي وسام الدولة للأدب والفنون في فرنسا.
ويقسم النقاد مسيرة أكسيونوف الإبداعية إلي عدة مراحل أساسية. المرحلة الأولي تمثل الفترة بين عامي 1959-1968م و كانت تلك الفترة التي واكبت مرحله “ذوبان الجليد” في الاتحاد السوفيتي وقام أكسيونوف بكتابه قصصه الشبابية الواقعية التي تعكس حياه السوفيت وجاءت كتاباته في معظمها يسيطر عليها لغة الوعظ والوصايا والقصص الغنائي المنسجم مع الأفكار الديمقراطية في تلك الفترة. ثم بدأت مرحله أخري في إبداعات الكاتب استمرت منذ 1968-1980م وشهدت تلك الفترة تركيز الكاتب علي استخدام السخرية في كتاباته، وتوجه إلي الاتجاه الطليعي في الأدب، وانتقد السياسات السوفيتية في اجتياح تشيكوسلوفاكيا و كذلك الحكم الشمولي، والذي تغول أكثر في نهاية الستينيات. وتبدأ المرحلة الثالثة في الطريق الإبداعي للكاتب في عام 1980 وحتي قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي وتحديدا حتي عام 1989م واستمر فيها الكاتب في انتقاده للحكم الشمولي ولكن لوحظ في تلك الفترة تأثر الكاتب بتواجده في المهجر؛ فظهرت الموضوعات والموتيفات الغربية وخاصة الأمريكية. وكانت المرحلة الأخيرة في إبداعاته والتي بدأت في عام 1989م وحتي وفاته، حيث عاد الكاتب إلي روسيا في نهاية الثمانينيات وأعاد نشر كتبه التي كانت ممنوعة سابقا، وصدرت له العديد من الأعمال التي تعكس رؤيته للواقع الروسي الجديد بعد انهيار السلطة السوفيتية.
وقد احتفل باليوبيل الماسي للكاتب في عام 2007م وتم في العام نفسه تنظيم مؤتمر دولي ومهرجان موسيقي باسم الكاتب وحضره أشهر كتاب وشعراء روسيا والعالم. وأصيب الكاتب في عام 2008م بسكتة دماغية ونقل إلي المستشفي قضي عاما ونصف في إجراء جراحات حرجة تحت الرعاية المركزة حتي وافته المنية في السادس من يوليو 2009م.
ويعرف أكسيونوف بأنه أول من أدخل مفردات غربية إلي اللغة الروسية في الستينيات مثل “الجينز” و”الجاز” وغيرها. كما يحسب للكاتب أنه مثل جسراً إبداعياً بين عصر “ذوبان الجليد” الذي وعد به خروشوف و بين حاضره. ولعل أشهر ما قيل عنه هو عبارة الكاتب الروسي يفجيني بوبوف “كما خرج الأدب الروسي الكلاسيكي من معطف جوجول، فإن الأدب المعاصر في روسيا قد خرج من سترة جينز أكسيونوف.”
للإطلاع على مصدر المقال :